فصل: تفسير الآية رقم (37)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الألوسي المسمى بـ «روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني» ***


تفسير الآية رقم ‏[‏35‏]‏

‏{‏وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آَمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ ‏(‏35‏)‏‏}‏

‏{‏وَإِذْ قَالَ إبراهيم‏}‏ مفعول لفعل محذوف أي اذكر ذلك الوقت، والمقصود تذكير ما وقع فيه على نهج ما قيل في أمثاله ‏{‏رَبّ اجعل هذا البلد‏}‏ يعني مكة شرفها الله تعالى‏:‏ ‏{‏ءامَنَّا‏}‏ أي ذا أمن، فصيغة فاعل للنسب كلابن وتامر لأن الآمن في الحقيقة أهل البلد، ويجوز أن يكون الإسناد مجازياً من إسناد ما للحال إلى المحل كنهر جار، والفرق بين ما هنا وما في البقرة ‏(‏126‏)‏ من قوله‏:‏ ‏{‏رَبِّ اجعل هذا بَلَدًا آمِنًا‏}‏ أنه عليه السلام سأل في الأول‏:‏ أن يجعله من جملة البلاد التي يأمن أهلها ولا يخافون، وفي الثاني‏:‏ أن يخرجه من صفة كان عليها من الخوف إلى ضدها من الأمن كأنه قال‏:‏ هو بلد مخوف فاجعله آمناً كذا في «الكشاف»، وتحقيقه أنك إذا قلت‏:‏ اجعل هذا خاتماً حسناً فقد أشرت إلى المادة طالباً أن يسبك منها خاتم حسن؛ وإذا قلت‏:‏ اجعل هذا الخاتم حسناً فقد قصدت الحسن دون الخاتمية، وذلك لأن محط الفائدة هو المفعول الثاني لأنه بمنزلة الخبر، وإلى هذا يرجع ما قيل في الفرق أن في الأول سؤال أمرين البلدية والأمن وههنا سئال أمر واحد وهو الأمن‏.‏ واستشكل هذا التفسير بأنه يقتضي أن يكون سؤال البلدية سابقاً على السؤال المحكي في هذه السورة وأنه يلزم أن تكون الدعوة الأولى غير مستجابة‏.‏

قال في الكشف‏:‏ والتفصي عن ذلك إما بأن المسؤول أولاً‏:‏ صلوحه للسكنى بأن يؤمن فيه أهله في أكثر الأحوال على المستمر في البلاد فقد كان غير صالح لها بوجه على ما هو المشهور في القصة، وثانياً‏:‏ إزالة خوف عرض كما يعتري البلاد الآمنة أحياناً، وأما بالحمل على الاستدامة وتنزيله منزلة العاري عنه مبالغة أو بأن أحدهما أمن الدنيا والآخر أمن الآخرة أو أن الدعاء الثاني صدر قبل استجابة الأول، وذكر بهذه العبارة إيماء إلى أن المسؤول الحقيقي هو الأمن والبلدية توطئة لا أنه بعد الاستجابة عراه خوف، وكأنه بنى الكلام على الترقي فطلب أولاً أن يكون بلد آمناً من جملة البلاد التي هي كذلك، ثم لتأكيد الطلب جعله مخوفاً حقيقة فطلب الأمن لأن دعاء المضطر أقرب إلى الإجابة ولذا ذيله عليه السلام بقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّى أَسْكَنتُ‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ 37‏]‏ الخ اه‏.‏

وهو مبني على تعدد السؤال وإن حمل على وحدته وتكرير الحكاية كما استظهره بعضهم، واستظهر آخرون الأول لتغاير التعبير في المحلين، فالظاهر أن المسؤول كلا الأمرين وقد حكى أولاً، واقتصر ههنا على حكاية سؤال الأمن لأن سؤال البلدية قد حكى بقوله‏:‏ ‏{‏فاجعل أَفْئِدَةً مّنَ الناس تَهْوِى إِلَيْهِمْ‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ 37‏]‏ إذ المسؤول هويها إليهم للمساكنة كما روى عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما لا للحج فقط وهو عين سؤال البلدية وقد حكى بعبارة أخرى على ما اختاره بعض الأجلة أو لأن نعمة الأمن أدخل في استيجاب الشكر فذكره أنسب بمقام تقريع الكفرة على إغفاله على ما قيل، وهذه الآية وما تلاها أعني قصة إبراهيم عليه السلام على ما نص عليه صاحب الكشف واردة على سبيل الاعتراض مقررة لما حث عليه من الشكر بالإيمان والعمل الصالح وزجر عنه من مقابلهما مدمجاً فيها دعوة هؤلاء النافرين بلسان اللطف والتقريب مؤكدة لجميع ما سلف أشد التأكيد‏.‏

وفي إرشاد العقل السليم أن المراد منها تأكيد ما سلف من تعجيبه صلى الله عليه وسلم ببيان فن آخر من جنايات القوم حيث كفروا بالنعم الخاصة بهم بعدما كفروا بالنعم العامة وعصوا أباهم إبراهيم عليه السلام حيث أسكنهم مكة زادها الله تعالى شرفاً فالإقامة الصلاة والاجتناب عن عبادة الأصنام والشكر لنعم الله تعالى وسأله أن يجعله بلداً آمناً ويرزقهم من الثمرات ويهوى قلوب الناس إليهم فاستجاب الله تعالى دعاءه وجعله حرماً آمناً تجبى إليه ثمرات كل شيء فكفروا بتلك النعم العظام واستبدلوا دار البوار بالبلد الحرام وجعلوا لله تعالى أنداداً وفعلوا ما فعلوا من القبائح الجسام ‏{‏واجنبنى وَبَنِىَّ‏}‏ أي بعدني وإياهم ‏{‏أَن نَّعْبُدَ الاصنام‏}‏ أي عن عبادتها، وقرأ الجحدري‏.‏ وعيسى الثقفي ‏{‏واجنبنى‏}‏ بقطع الهمزة وكسر النون بوزن أكرمني وهما لغة أهل نجد يقولون‏:‏ جنبه مخففاً وأجنبه رباعياً وأما أهل الحجاز فيقولون‏:‏ جنبه مشدداً، وأصل التجنب أن يكون الرجل في جانب غير ما عليه غيره ثم استعمل بمعنى البعد، والمراد هنا على ما قال الزجاج طلب الثبات والدوام على ذلك أي ثبتنا على ما نحن عليه من التوحيد وملة الإسلام والبعد عن عبادة الأصنام وإلا فالأنبياء معصومون عن الكفر وعبادة غير الله تعالى‏.‏ وتعقب ذلك الإمام بأنه لما كان من المعلوم أنه سبحانه يثبت الأنبياء عليهم السلام على الاجتناب فما الفائدة في سؤال التثبيت‏؟‏ ثم قال‏:‏ والصحيح عندي في الجواب وجهان‏:‏ الأول‏:‏ أنه عليه السلاموإن كان يعلم أن الله تعالى يعصمه من عبادة الأصنام إلا أنه ذكر ذلك هضماً لنفسه وإظهاراً للحاجة والفاقة إلى فضل الله سبحانه وتعالى في كل المطالب، والثاني‏:‏ أن الصوفية يقولون‏:‏ الشرك نوعان‏.‏ ظاهر وهو الذي يقول به المشركون‏.‏ وخفي وهو تعلق القلب بالوسائط والأسباب الظاهرة والتوحيد المحض قطع النظر عما سوى الله تعالى، فيحتمل أن يكون مراده عليه السلام من هذا الدعاء العصمة عن هذا الشرك انتهى، ويرد على هذا الأخير أنه يعود السؤال عليه فيما أظن لأن النظر إلى السوي يحاكي الشرك الذي يقول به المشركون عند الصوفية فقد قال قائلهم‏:‏

ولو خطرت لي في سواك إرادة *** على خاطري سهواً حكمت بردتي

ولا أظن أنهم يجوزون ذلك للأنبياء عليهم السلام، وحيث بنى الكلام على ما قرروه يقال‏:‏ ما فائدة سؤال العصمة عن ذلك والأنبياء عليهم السلام معصومون عنه‏؟‏ والجواب الصحيح عندي ما قيل‏:‏ إن عصمة الأنبياء عليهم السلام ليست لأمر طبيعي فيهم بل بمحض توفيق الله تعالى إياهم وتفضله عليهم، ولذلك صح طلبها وفي بعض الآثار أن الله سبحانه قال لموسى عليه السلام‏:‏ يا موسى لا تأمن مكري حتى تجوز الصراط‏.‏

وأنت تعلم أن المبشرين بالجنة على لسان الصادق المصدوق عليه الصلاة والسلام كانوا كثيراً ما يسألون الله تعالى الجنة مع أنهم مقطوع لهم بها، ولعل منشأ ذلك ما قيل لموسى عليه السلام فتدبر، والمتبادر من بنيه عليه السلام من كان من صلبه، فلا يتوهم أن الله تعالى لم يستجب دعاءه لعبادة قريش الأصنام وهم من ذريته عليه السلام حتى يجاب بما قاله بعضهم من أن المراد كل من كان موجوداً حال الدعاء من أبنائه ولا شك أن دعوته عليه السلام مجابة فيهم أو بأن دعاءه استجيب في بعض دون بعض ولا نقص فيه كما قال الإمام‏.‏

وقال سفيان بن عيينة‏:‏ إن المراد ببنيه ما يشمل جميع ذريته عليه السلام وزعم أنه لم يعبد أحد من أولاد إسمعيل عليه السلام الصنم وإنما كان لكل قوم حجر نصبوه وقالوا هذا حجر والبيت حجر وكانوا يدورون به ويسمونه الدوار ولهذا كره غير واحد أن يقال دار بالبيت بل يقال طاف به، وعلى ذلك أيضاً حمل مجاهد البنين وقال‏:‏ لم يعبد أحد من ولد إبراهيم عليه السلام صنماً وإنما عبد بعضهم الوثن، وفرق بينهما بأن الصنم هو التمثال المصور والوثن هو التمثال الغير المصور، وليت شعري كيف ذهبت على هذين الجليلين ما في القرآن من قوارع تنعي على قريش عبادة الأصنام‏.‏ وقال الإمام بعد نقله كلام مجاهد‏:‏ إن هذا ليس بقوي لأنه عليه السلام لم يرد بهذا الدعاء إلا عبادة غير الله تعالى والصنم كالوثن في ذلك ويرد مثله على ابن عيينة، ومن هنا قيل عليه‏:‏ إن فيما ذكره كراً على ما فر منه لأن ما كانوا يصنعونه عبادة لغير الله تعالى أيضاً‏:‏ واستدل بعض أصحابنا بالآية على أن التبعيد من الكفر والتقريب من الايمان ليس إلا من الله تعالى لأنه عليه السلام إنما طلب التبعيد عن عبادة الأصنام منه تعالى، وحمل ذلك على الألطاف فيه ما فيه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏36‏]‏

‏{‏رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏36‏)‏‏}‏

‏{‏رَبّ إِنَّهُنَّ‏}‏ أي الأصنام ‏{‏أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مّنَ الناس‏}‏ أي تسببن له في الضلال فإسناد الإضلال إليهن مجازي لأنهن جماد لا يعقل منهن ذلك والمضل في الحقيقة هو الله تعالى، وهذا تعليل لدعائه عليه السلام السابق، وصدر بالنداء إظهاراً للاعتناء به ورغبة في استجابته ‏{‏فَمَن تَبِعَنِى‏}‏ منهم فيما أدعو إليه من التوحيد وملة الإسلام ‏{‏فَإِنَّهُ مِنّى‏}‏ يحتمل أن تكون ‏{‏مِنْ‏}‏ تبعيضية على التشبيه أي فإنه كبعضي في عدم الانفكاك، يحتمل ويحتمل أن تكون اتصالية كما في قوله صلى الله عليه وسلم لعليّ كرم الله تعالى وجهه‏:‏ «أنت مني بمنزلة هرون من موسى» أي فإنه متصل بي لا ينفك عني في أمر الدين، وتسميتها اتصالية لأنه يفهم منها اتصال شيء بمجرورها وهي ابتدائية إلا أن ابتدائية باعتبار الاتصال كذا في «حواشي شرح المفتاح الشريفي»، يعني أن مجرورها ليس مبدأ أو منشأ لنفس ما قبلها بل لاتصاله، فإما أن يقدر متعلقها فعلاً خاصاً كما قاله الجلال السيوطي في بيان الخبر من أن ‏{‏مِنّي‏}‏ فيه خبر المبدأ ‏{‏وَمِنْ‏}‏ اتصالية ومتعلق الخبر خاص والباء زائدة بمعنى أنت متصل بي ونازل مني بمنزلة هرون من موسى، وإما أن يقدر فعل عام كما ذهب إليه الشريف هناك أي منزلته بمنزلة كائنة وناشئة مني كمنزلة هرون من موسى عليهما السلام، وتقديره خاصة هنا كما فعلنا على تقدير جعلها اتصالية مما يستطيبه الذوق السليم دون تقديره عاماً ‏{‏وَمَنْ عَصَانِى‏}‏ أي لم يتبعني، والتعبير عنه بالعصيان كما قيل للإيذان بأنه عليه السلام مستمر على الدعوة وأن عدم اتباع من لم يتبعه إنما هو لعصيانه لا لأن الدعوة لم تبلغه‏.‏ وفي «البحر» أن بين الاتباع والعصيان طباقاً معنوياً لأن الاتباع طاعة ‏{‏فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ‏}‏ أي قادر على أن تغفر له وترحمه، وفي الكلام على ما أشار إليه البعض حذف والتقدير ومن عصاني فلا أدعو عليه فإنك الخ، وفي الآية دليل على أن الشرك يجوز أن يغفر ولا إشكال في ذلك بناء على ما قال النووي في «شرح مسلم» من أن مغفرة الشرك كانت في الشرائع القديمة جائزة في أممهم وإنما امتنعت في شرعنا‏.‏

واختلف القائلون بأن مغفرة الشرك لم تكن جائزة في شريعة من الشرائع في توجيه الآية، فمنهم من ذهب إلى أن المراد غفور رحيم بعد التوبة ونسب ذلك إلى السدي‏.‏ ومنهم من ذهب إلى تقييد العصيان بما دون الشرك وغفل عمل تقتضيه المعادلة‏.‏ وروى ذلك عن مقاتل‏.‏ وفي رواية أخرى عنه أنه قال‏:‏ إن المعنى ومن عصاني بإقامته على الكفر فإنك قادر على أن تغفر له وترحمه بأن تنقله من الكفر إلى الإيمان والإسلام وتهديه إلى الصواب‏.‏

ومنهم من قال‏:‏ المعنى ومن لم يتبعني فيما أدعو إليه من التوحيد وأقام على الشرك فإنك قادر على أن تستره عليه وترحمه بعدم معاجلته بالعذاب، ونظير ذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لّلنَّاسِ على ظُلْمِهِمْ‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 6‏]‏ ومنهم من قال‏:‏ إن الكلام على ظاهره وكان ذلك منه عليه السلام قبل أن يعلم أن الله سبحانه لا يغفر الشرك، ولا نقص بجهل ذلك لأن مغفرة الشرك جائزة عقلاً كما تقرر في الأصول لكن الدليل السمعي منع منها، ولا يلزم النبي أن يعلم جميع الأدلة السمعية في يوم واحد‏.‏ والإمام لم يرتض أكثر هذه الأوجه وجعل هذا الكلام منه عليه السلام شفاعة في إسقاط العقاب عن أهل الكبائر قبل التوبة وأنه دليل لحصول ذلك لنبينا صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ إن المعصية المفهومة من الآية إما أن تكون من الصغائر أو من الكبائر بعد التوبة أو قبلها، والأول والثاني باطلان لأن ‏{‏مِنْ عَصَانِى‏}‏ مطلق فتخصيصه عدول عن الظاهر، وأيضاً الصغائر والكبائر بعد التوبة واجبة الغفر إن عند الخصم فلا يمكن اللفظ عليه فثبت أن الآية شفاعة لأهل الكبائر قبل التوبة، ومتى ثبتت منه عليه السلام ثبتت في حق نبينا عليه السلام والسلام لمكان ‏{‏اتبع مِلَّةَ إبراهيم‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 123‏]‏ ونحوه، ولئلا يلزم النقص وهو كما ترى، وقد مر لك ما ينفعك في هذا المقام فتذكر هداك الله تعالى‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏37‏]‏

‏{‏رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ ‏(‏37‏)‏‏}‏

‏{‏رَبَّنَا‏}‏ قال في «البحر» كرر النداء رغبة في الإجابة والالتجاء إليه تعالى، وأتى بضمير الجماعة لأنه تقدم ذكره عليه السلام وذكر بنيه في قوله‏:‏ ‏{‏واجنبنى وَبَنِىَّ‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ 35‏]‏ وتعقب بأن ذلك يقتضي ضمير الجماعة في ‏{‏رَبّ إِنَّهُنَّ‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ 36‏]‏ الخ مع أنه جيء فيه بضمير الواحد، فالوجه إن ذلك لأن الدعاء المصدر به وما هو بصدد تمهيد مبادىء إجابته من قوله‏:‏ ‏{‏إِنَّى أَسْكَنتُ‏}‏ الخ متعلق بذريته، فالتعرض لوصف ربوبيته تعالى لهم أدخل في القبول وإجابة المسؤول، والتأكيد لمزيد الاعتناء فيما قصده من الخبر ‏{‏وَمِنْ‏}‏ في قوله ‏{‏مِن ذُرّيَّتِى‏}‏ بمعنى بعض وهي في تأويل المفعول به أي أسكنت بعض ذريتي، ويجوز أن يكون المفعول محذوفاً والجار والمجرور صفته سدت مسده أي أسكنت ذرية من ذريتي ‏{‏وَمِنْ‏}‏ تحتمل التبعيض والتبيين‏.‏ وزعم بعضهم أن ‏{‏مِنْ‏}‏ زائدة على مذهب الأخفش لا يرتضيه سليم البصيرة كما لا يخفى، والمراد بالمسكن إسمعيل عليه السلام ومن سيولد له فإن إسكانه حيث كان على وجه الاطمئنان متضمن لإسكانهم، والداعي للتعميم على ما قيل قوله الآتي‏:‏ ‏{‏لِيُقِيمُواْ‏}‏ الخ، ولا يخفى أن الإسكان له حقيقة ولأولاده مجاز، فمن لم يجوز الجمع بين الحقيقة والمجاز يرتكب لذلك عموم المجاز، وهذا الإسكان بعدما كان بينه عليه السلام وبين أهله ما كان‏.‏

وذلك أن هاجر أم إسمعيل كانت أمة من القبط لسارة فوهبتها من إبراهيم عليه السلام فلما ولدت له إسمعيل غارت فلم تقاره على كونه معها فأخرجها وابنها إلى أرض مكة فوضعهما عند البيت عند دوحة فوق زمزم في أعلا المسجد وليس بمكة يومئذ أحد وليس بها ماء ووضع عندهما جراباً فيه تمر وسقاء فيه ماء ثم قفى منطلقاً فتبعته هاجر فقالت‏:‏ يا إبراهيم أين تذهب وتتركنا بهذا الوادي الذي ليس فيه أنيس ولا شيء قالت له ذلك مراراف وجعل لا يلتفت إليها فقالت له‏:‏ آلله أمرك بهذا‏؟‏ قال‏:‏ نعم قالت‏:‏ إذن لا يضيعنا ثم رجعت، وانطلق عليه السلام حتى إذا كان عند الثنية حيث لا يرونه استقبل بوجهه البيت وكان إذ ذاك مرتفعاً من الأرض كالرابية تأتيه السيول فتأخذ عن يمينه وشماله ثم دعا بهذه الدعوات ورفع يديه فقال‏:‏ ‏{‏رَبّ إِنّى أَسْكَنتُ إلى لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ‏}‏ ثم أنها جعلت ترضع ابنها وتشرب مما في السقاء حتى إذا نفد عطشت وعطش ابنها وجعلت تنظر إليه يتلبط فانطلقت كراهية أن تنظر إليه فوجدت الصفا أقرب جبل يليها فقامت عليه ثم استقبلت الوادي تنظر هل ترى أحداً فلم تر فهبطت حتى إذا بلغت الوادي رفعت طرف درعها ثم سعت سعي الإنسان المجهود حتى جاوزته ثم أتت المروءة فقامت عليها ونظرت هل ترىء أحداً فلم تر ففعلت ذلك سبع مرات ولذلك سعى الناس بينهما سبعاً، فلما أشرفت على المروة سمعت صوتاً فقالت‏:‏ صه تريد نفسه ثم تسمعت فسمعت أيضاً فقالت‏:‏ قد أسمعت إن كان عندك غواث فإذا هي بالملك عند موضع زمزم فبحث بعقبه حتى ظهر الماء فجعلت تحوضه وتغرف منه في سقائها وهو يفور فشربت وأرضعت ولدها وقال لها الملك‏:‏ لا تخافي الضيعة فإن ههنا بيت الله تعالى يبنيه هذا الغلام وأبوه وإن الله سبحانه لا يضيع أهله، ثم أن مرت بهما رفقة من جرهم فرأوا طائراً عائفاً فقالوا‏:‏ لا طير إلا على الماء فبعثوا رسولهم فنظر فإذا بالماء فأتاهم فقصدوه وأم إسماعيل عنده، فقالوا‏:‏ أشركينا في مائك نشركك في ألباننا ففعلت، فلما أدرك إسماعيل عليه السلام زوجوه أمرأة منهم وتمام القصة في كتب السير‏.‏

‏{‏بِوَادٍ غَيْرِ ذِى زَرْعٍ‏}‏ وهو وادي مكة شرفها الله تعالى، ووصفه بذلك دون غير مزروع للمبالغة لأن المعنى ليس صالحاً للزرع، ونظيره قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قُرْءاناً عَرَبِيّاً غَيْرَ ذِى عِوَجٍ‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 28‏]‏ وكان ذلك لحجريته، قال ابن عطية‏:‏ وإنما لم يصفه عليه السلام بالخلو عن الماء مع أنه حاله إذ ذاك لأنه كان علم أن الله تعالى لا يضيع إسماعيل عليه السلام وأمه في ذلك الوادي وأنه سبحانه يرزقهما الماء فنظر عليه السلام النظر البعيد، وقال أبو حيان بعد نقله وقد يقال‏:‏ إن انتفاء كونه ذا زرع مستلزم لانتفاء الماء إذ لا يمكن أن يوجد زرع إلا حيث الماء فنفى ما يتسبب عن الماء وهو الزرع لانتفاء سببه وهو الماء اه، وقال بعضهم‏:‏ إن طلب الماء لم يكن مهماً له عليه السلام لما أن الوادي مظنة السيول والمحتاج للماء يدخر منها ما يكفيه وكان المهم له طلب الثمرات فوصف ذلك بكونه غير صالح للزرع بياناً لكمال الافتقار إلى المسؤول فتأمل‏.‏

‏{‏عِندَ بَيْتِكَ المحرم‏}‏ ظرف لأسكنت كقولك‏:‏ صليت بمكة عند الركن، وزعم أبو البقاء أنه صفة ‏{‏وَادٍ‏}‏ أو بدل منه، واختار بعض الأجلة الأول إذ المقصود إظهار كون ذلك الإسكان مع فقدان مباديه لمحض التقرب إلى الله تعالى والالتجاء إلى جواره الكريم كما ينبىء عنه التعرض لعنوان الحرمة المؤذن بعزة الملتجأ وعصمته عن المكاره، فإنهم قالوا‏:‏ معنى كون البيت محرماً أن الله تعالى حرم التعرض له والتهاون به أو أنه لم يزل ممنعاً عزيزاً يهابه الجبابرة في كل عصر أو لأنه منع منه الطوفان فلم يستول عليه ولذا سمي عتيقاً على ما قيل، وأبعد من قال إنه سمي محرماً لأن الزائرين يحرمون على أنفسهم عند زيارته أشياء كانت حلالاً عليهم، وسماه عليه السلام بيتاً باعتبار ما كان فإنه كان مبنياً قبل، وقيل‏:‏ باعتبار ما سيكون بعد وهو ينزع إلى اعتبار عنوان الحرمة كذلك‏.‏

‏{‏رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصلاة‏}‏ أي لأن يقيموا، فاللام جارة والفعل منصوب بأن مضمرة بعدها، والجار والمجرور متعلق بأسكنت المذكور، وتكرير النداء وتوسيطه لإظهار كمال العناية بإقامة الصلاة فإنها عماد الدين ولذا خصها بالذكر من بين سائر شعائره، والمعنى على ما يقتضيه كلام غير واحد على الحصر أي ما أسكنتهم بهذا الوادي البلقغ الخالي من كل مرتفق ومرتزق إلا ليقيموا الصلاة عند بيتك المحرم ويعمروه بذكرك وعبادتك وما تعمر به مساجدك ومتعبداتك متبركين بالبقعة التي شرفتها على البقاع مستسعدين بجوارك الكريم متقربين إليك بالعكوف عند بيتك والطواف به والركوع والسجود حوله مستنزلين رحمتك التي آثرت بها سكان حرمك‏.‏

وهذا الحصر على ما ذكروا مستفاد من السياق فإنه عليه السلام لما قال‏:‏ ‏{‏بِوَادٍ غَيْرِ ذِى زَرْعٍ‏}‏ نفى أن يكون إسكانهم للزراعة ولما قال‏:‏ ‏{‏عِندَ بَيْتِكَ المحرم‏}‏ أثبت أنه مكان عبادة فلما قال‏:‏ ‏{‏لِيُقِيمُواْ‏}‏ أثبت أن الإقامة عنده عبادة وقد نتفى كونها للكسب فجاء الحصر مع ما في ‏{‏رَبَّنَا‏}‏ من الإشارة إلى أن ذلك هو المقصود‏.‏

وعن مالك أن التعليل يفيد الحصر، فقد استدل بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لِتَرْكَبُوهَا‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 8‏]‏ على حرمة أكلها وفي «الكشف» أن استفادة الحصر من تقدير محذوف مؤخر يتعلق به الجار والمجرور أي ليقوموا أسكنتهم هذا الإسكان، أخبر أولاً أنه أسكنهم، بواد قفر فأدمج فيه حاجتهم إلى الوافدين وذكر وجه الإيثار لشرف الجوار بقوله‏:‏ ‏{‏عِندَ بَيْتِكَ المحرم‏}‏ ثم صر ثانياً بأنه إنما آثر ذلك ليعمروا حرمك المحرم وبنى عليه الدعاء الآتي، ومن الدليل على أنه غير متعلق بالمذكور تخلل ‏{‏رَبَّنَا‏}‏ ثانياً بين الفعل ومتعلقه وهذا بين ولا وجه لاستفادة ذلك من تكرار ‏{‏رَبَّنَا‏}‏ إلا من هذا الوجه اه، واختار بعضهم ما ذكرنا أولاً في وجه الاستفادة وقال‏:‏ إنه معنى لطيف ولا ينافيه الفصل بالنداء لأنه اعتراض لتأكيد الأول وتذكيره فهو كالمنبه عليه فلا حاجة إلى تعلق الجار بمحذوف مؤخر واستفادة الحصر من ذلك، وهو الذي ينبغي أن يعول عليه، ويجعل النداء مؤكداً للأول يندفع ما قيل‏:‏ إن النداء له صدر الكلام فلا يتعلق ما بعده بما قبله فلا بد من تقدير متعلق، ووجه الاندفاع ظاهر، وقيل‏:‏ اللام لام الأمر والفعل مجزوم بها، والمراد هو الدعاء لهم بإقامة الصلاة كأنه طلب منهم الإقامة وسأل من الله تعالى أن يوفقهم لها ولا يخفى بعده، وأبعد منه ما قاله أبو الفرج بن الجوزي‏:‏ أن اللام متعلقة بقوله‏:‏ ‏{‏اجنبنى وَبَنِىَّ أَن نَّعْبُدَ الاصنام‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ 35‏]‏ وفي قوله‏:‏ ‏{‏لِيُقِيمُواْ‏}‏ بضمير الجمع على ما في «البحر» دلالة على أن الله تعالى أعلمه بأن ولده إسماعيل عليه السلام سيعقب هنالك ويكون له نسل ‏{‏فاجعل أَفْئِدَةً مّنَ الناس‏}‏ أي أفئدة من أفئدتهم ‏{‏تَهْوِى إِلَيْهِمْ‏}‏ أي تسرع إليهم شوقاً ووداداً فمن للتبعيض، ولذا قيل‏:‏ لو قال عليه السلام‏:‏ أفئدة الناس لازدحمت عليهم فارس والروم، وهو مبني على الظاهر من إجابة دعائه عليه السلام وكون الجمع المضاف يفيد الاستغراق‏.‏

وروى عن ابن جبير أنه قال‏:‏ لو قال عليهم السلام‏:‏ أفئدة الناس لحجت البيت اليهود والنصارى‏.‏

وتعقب بأنه غير مناسب للمقام إذ المسؤول توجيه القلوب إليهم للمساكنة معهم لا توجيهها إلى البيت للحج وإلا لقيل تهوى إليه فإنه عين الدعاء بالبلدية قد حكى بعبارة أخرى اه‏.‏ وأنت تعلم أنه لا منافاة بين الشرطية في المروى وكون المسؤول توجيه القلوب إليهم للمساكنة معهم، وقد جاء نحو تلك الشرطية عن ابن عباس، ومجاهد كما في «الدر المنثور»‏.‏ وغيره، على أن بعضهم جعل هذا دعاء بتوجيه القلوب إلى البيت‏.‏

فقد أخرج ابن أبي شيبة‏.‏ وابن جرير‏.‏ وابن المنذر‏.‏ وابن أبي حاتم عن الحكم قال‏:‏ سألت عكرمة‏.‏ وطاوساً‏.‏ وعطاء بن أبي رباح عن هذه الآية ‏{‏فاجعل‏}‏ إلى آخره فقالوا‏:‏ البيت تهوى إليه قلوبهم يأتونه، وفي لفظ قالوا‏:‏ هواهم إلى مكة أن يحجوا؛ نعم هو خلاف الظاهر، وجوز أن تكون ‏{‏مِنْ‏}‏ للابتداء كما في قولك‏:‏ القلب منه سقيم تريد قلبه فكأنه قيل‏:‏ أفئدة ناس، واعترضه أبو حيان بأنه لا يظهر كونها للابتداء لأنه لا فعل هنا يبتدأ فيه لغاية ينتهي إليها إذ لا يصح ابتداء جعل أفئدة من الناس‏.‏ وتعقبه بعض الأجلة بقوله‏:‏ وفيه بحث فإن فعل الهوى للأفئدة يبتدأ به لغاية ينتهي إليها، ألا يرى إلى قوله‏:‏ ‏{‏إِلَيْهِمُ‏}‏ وفيه تأمل اه وكأن فيه إشارة إلى ما قيل‏:‏ من أن الابتداء في ‏{‏مِنْ‏}‏ الإبتدائية إنما هو من متعلقها لا مطلقاً، وإن جعلناها متعلقة بتهوى لا يظهر لتأخيره ولتوسيط الجار فائدة، وذكر مولانا الشهاب في توجيه الابتداء وترجيحه على التبعيض كلاماً لا يخلو عن بحث فقال‏:‏ اعلم أنه قال في الإيضاح أنه قد يكون القصد إلى الابتداء دون أن يقصد انهاء مخصوص إذ كان المعنى لا يقتضي إلا بالمبتدأ منه كأعوذ بالله تعالى من الشيطان الرجيم، وزيد أفضل من عمرو‏.‏

وقد قيل‏:‏ إن جميع معاني ‏{‏مِنْ‏}‏ دائرة على الابتداء، والتبعيض هنا لا يظهر فيه فائدة كما في قوله‏:‏ ‏{‏وَهَنَ العظم مِنّى‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 4‏]‏ فإن كون قلب الشخص وعظمه بعضاً منه معنى مكشوف غير مقصود بالإفادة فلذا جعلت للإبتداء والظرف مستقر للتفخيم كأن ميل القلب نشأ من جملته مع أن ميل جملة كل شخص من جهة قلبه كما أن سقم قلب العاشق نشأ منه مع أنه إذا صلح صلح البدن كله، وإلى هذا نحا المحققون من «شراح الكشاف» لكنه معنى غامض فتدبر، والأفئدة مفعول أول لا جعل وهو جمع فؤاد وفسروه على ما في «البحر»‏.‏

وغيهر بالقلب لكن يقال له فؤاد إذا اعتبر فيه معنى التفؤد أي التوقد، يقال‏:‏ فأدت اللحم أي شويته ولحم فئيد أي مشوي، وقيل‏:‏ الأفئة هنا القطع من الناس بلغة قريش وإليه ذهب ابن بحر، والمفعول الثاني جملة ‏{‏تَهْوَى‏}‏ وأصل الهوى الهبوط بسرعة وفي كلام بعضهم السرعة، وكان حقه أن يعدي باللام كما في قوله‏:‏

حتى إذا ما هوت كف الوليد لها *** طارت وفي كفه من ريشها تبك

وإنما عدى بإلى لتضمينه معنى الميل كما في قوله‏:‏

تهوى إلى مكة تبغي الهدى *** ما مؤمن الجن كأنجاسها

ولما كان ما تقدم كالمبادى لإجابة دعائه عليه السلام وإعطاء مسؤوله جاء بالفاء في قوله‏:‏ ‏{‏فاجعل‏}‏ إلى آخره وقرأ هشام ‏{‏أفئيدة‏}‏ بياء بعد الهمزة نص عليه الحلواني عنه، وخرج ذلك على الإشباع كما في قوله‏:‏

أعوذ بالله من العقراب *** الشائلات عقد الأذناب

ولما كان ذلك لا يكون إلا في ضرورة الشعر عند بعضهم قالوا‏:‏ إن هشاماً قرأ بتسهيل الهمزة كالياء فعبر عنها الراوي بالياء فظن من أخطأ فهمه أنها بياء بعد الهمزة، والمراد بياء عوضاً من الهمزة‏.‏ وتعقب ذلك الحافظ أبو عمرو الداني بأن النقلة عن هشام كانوا من أعلم الناس بالقراءة ووجوهها فهم أجل من أن يعتقد فيهم مثل ذلك‏.‏ وقرىء ‏{‏آفدة‏}‏ على وزن ضاربة وفيه احتمالان‏.‏ أحدهما‏:‏ أن يكون قدمت فيه الهمزة على الفاء فاجتمع همزتان ثانيتهما‏:‏ ساكنة فقبلت ألفاً فوزنه أعفلة كما قيل في أدور جمع دار قلبت فيه الواو المضمومة همزة ثم قدمت وقلبت ألفاً فصار آدر‏.‏ وثانيهما‏:‏ أنه اسم فاعل من أفد يأفد بمعنى قرب ودنا ويكون بمعنى عجل، وهو صفة لمحذوف أي جماعة أو جماعات آفدة‏.‏ وقرىء ‏{‏أفدة‏}‏ بفتح الهمزة من غير مد وكسر الفاء بعدها دال، وهو أما صفة من أفد بوزن خشنة فكيون بمعنى إفدة في القراءة الأخرى أو أصله أفئدة فنقلت حركة الهمزة إلى ما قبلها ثم طرحت وهو وجه مشهور عند الصرفيين والقراء‏.‏

قال الأولون‏:‏ إذا تحركت الهمزة بعد ساكن صحيح تبقى أو تنقل حركتها إلى ما قبلها وتحذف، ولا يجوز جعلها بين بين لما فيه من شبه التقاء الساكنين، وقال صاحب النشر من الآخرين‏:‏ الهمزة المتحركة بعد حرف صحيح ساكن كمسؤول وأفئدة وقرآن وظمآنان فيها وجه واحد وهو النقل وحكى وجه ثان وهو بين بين وهو ضعيف جداً وكذا قال غيره منهم، فما قيل‏:‏ إن الوجه إخراجها بين بين ليس بالوجه‏.‏ وقرأت أم الهيثم ‏{‏أفودة‏}‏ بالواو المكسورة بدل الهمزة، قال «صاحب اللوامح»‏:‏ وهو جمع وفد، والقراءة حسنة لكني لا أعرف هذه المرأة بل ذكرها أبو حاتم اه‏.‏

وقال أبو حيان‏:‏ يحتمل أنه أبدل الهمزة في فؤاد ثم جمع وأقرت الواو في الجمع إقرارها في المفرد أو هو جمع وفد كما قال صاحب اللوامح وقلب إذ الأصل أوفدة، وجمع فعل على أفعلة شاذ‏.‏ ونجد وأنجدة ووهى وأوهية، وأم الهيثم امرأة نقل عنها شيء من لغات العرب‏.‏ وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما ‏{‏إفادة‏}‏ على وزن إمارة ويظهر أن الهمزة بدل من الواو المكسورة كما قالوا‏:‏ إشاح في وشاح فالوزن فعالة أي فاجعل ذوي وفادة، ويجوز أن يكون مصدر أفاد إفادة أي ذوي إفادة وهم الناس الذين يفيدون وينتفع بهم‏.‏ وقرأ مسلمة بن عبد الله ‏{‏وَمَا تَهْوَى‏}‏ بضم التاء مبنياً للمفعول من أهوى المنقول بهمزة التعدية منهوى اللازم كأنه قيل‏:‏ يسرع بها إليهم‏.‏ وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه‏.‏ وجماعة من أهله‏.‏ ومجاهد ‏{‏تَهْوَى‏}‏ مضارع هو بمعنى أحب، وعدى بإلى لما تقدم ‏{‏وارزقهم‏}‏ أي ذريتي الذين أسكنتهم هناك‏.‏ وجوز أن يريدهم والذين ينحازون إليهم من الناس، وإنما لم يخص عليه السلام الدعاء بالمئمنين منهم كما في قوله‏:‏ ‏{‏وارزق أَهْلَهُ مِنَ الثمرات مَنْ ءامَنَ مِنْهُم بالله واليوم الاخر‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 126‏]‏ اكتفاء على ما قيل بذكر إقامة الصلاة‏.‏

‏{‏مِنَ الثمرات‏}‏ من أنواعها بأن تجعل بقربهم قرى يحصل فيها ذلك أو تجبى إليهم من الأقطار الشاسعة وقد حصل كلا الأمرين حتى أنه يجتمع في مكة المكرمة البواكير والفواكه المختلفة الأزمان من الربيعية والصيفية والخريفية في يوم واحد‏.‏ أخرج ابن جرير‏.‏ وابن أبي حاتم عن محمد بن مسلم الطائفي أن الطائفي كانت من أرض فلسطين فلما دعا إبراهيم عليه السلام بهذه الدعوة رفعها الله تعالى ووضعها حيث وضعها رزقاً للحرم‏.‏ وفي رواية أن جبريل عليه السلام اقتلعها فجاء وطاف بها حول البيت سبعاً ولذا سميت الطائف ثم وضعها قريب مكة‏.‏ وروى نحو ذلك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم عن الزهري أن الله تعالى نقل قرية من قرى الشام فوضعها بالطائف لدعوة إبراهيم عليه السلام‏.‏ والظاهر أن إبراهيم عليه السلام لم يكن مقصوده من هذا الدعاء نقل أرض منبتة من فلسطين أو قرية من قرى الشام وإنما مقصوده عليه السلام أن يرزقهم سبحانه من الثمرات وهو لا يتوقف على النقل، فلينظر ما وجه الحكمة فيه، وأنا لست على يقين من صحته ولا أنكر والعياذ بالله تعالى أن الله جل وعلا على كل شيء قدير وأنه سبحانه يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد ‏{‏لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ‏}‏ تلك النعمة بإقامة الصلاة وإداء سائر مراسم العبودية واستدل به على أن تحصيل منافع الدنيا إنما هي ليستعان بها على أداء العبادات وإقامة الطاعات، ولا يخفى ما في دعائه عليه السلام من مراعاة حسن الأدب والمحافظة على قوانين الضراعة وعرض الحاجة واستنزال الرحمة واستجلاب الرأفة، ولذا من عليه بحسن القبول وإعطاء المسؤول، ولا بدع في ذلك من خليل الرحمن عليه السلام‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏38‏]‏

‏{‏رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ ‏(‏38‏)‏‏}‏

‏{‏رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِى وَمَا نُعْلِنُ‏}‏ من الحاجات وغيرها، وأخرج ابن أبي حاتم عن إبراهيم النخعي أن مراده عليه السلام ما نخفي من حب إسماعيل وأمه وما نعلن لسارة من الجفاء لهما، وقيل‏:‏ ما نخفي من الوجد لما وقع بيننا من الفرقة وما نعلن من البكاء والدعاء، وقيل‏:‏ ما نخفى من كآبة الافتراق وما نعلن مما جرى بيننا وبين هاجر عند الوداع من قولها‏:‏ إلى من تكلنا‏؟‏ وقولي لها‏:‏ إلى الله تعالى، و‏{‏مَا‏}‏ في جميع هذه الأقوال موصولة والعائد محذوف؛ والظاهر العموم وهو المختار، والمراد بما نخفي على ما قيل ما يقابل ‏{‏مَا نُعْلِنُ‏}‏ سواء تعلق به الإخفاء أو لا أي تعلم ما نظهره وما لا نظهره فإن علمه تعالى متعلق بما لا يخطر بباله عليه السلام من الأحوال الخفية، وتقديم ‏{‏مَا نُخْفِى‏}‏ على ‏{‏مَا نُعْلِنُ‏}‏ لتحقيق المساواة بينهما في تعلق العلم على أبلغ وجه فكان تعلقه بما يخفى أقدم منه بما يعلن أو لأن مرتبة السر والخفاء متقدمة على مرتبة العلن إذ ما من شيء يعلن إلا وهو قبل ذلك خفي فتعلق علمه تعالى بحاله الأولى أقدم من تعلقه بحالته الثانية، وجعل بعضهم ‏{‏مَا‏}‏ مصدرية والتقديم والتأخير لتحقيق المساواة أيضاً، ومن هنا قيل‏:‏ أي تعلم سرنا كما تعلم علننا‏.‏

والمقصود من فحوى كلامه عليه السلام أن إظهار هذه الحاجات وما هو من مباديها وتتماتها ليس لكونها غير معلومة لك بل إنما هو لإظهار العبودية والتخشع لعظمتك والتذلل لعزتك وعرض الافتقار لما عندك والاستعجال لنيل أياديك، وقيل‏:‏ أراد عليه السلام أنك أعلم بأحوالنا ومصالحنا وأرحم بنا من أنفسنا فلا حاجة لنا إلى الطلب لكن ندعوك لإظهار العبودية إلى آخره، وقد أشار السهروردي إلى أن ظهور الحال يغني عن السؤال بقوله‏:‏

ويمنعني الشكوى إلى الناس أنني *** عليل ومن أشكو إليه عليل

ويمنعني الشكوى إلى الله أنه *** عليم بما أشكوه قبل أقول

وتكرير النداء للمبالغة في الضراعة والابتهال، وضمير الجماعة كما قال بعض المحققين لأن المراد ليس مجرد علمه تعالى بما يخفى وما يعلن بل بجميع خفايا الملك والملكوت وقد حققه عليه السلام بقوله على وجه الاعتراض‏:‏ ‏{‏وَمَا يخفى عَلَى الله مِن شَىْء فَى الارض وَلاَ فِى السماء‏}‏ لما أن علمه تعالى ذاتي فلا يتفاوت بالنسبة إليه معلوم دون معلوم، وقال أبو حيان‏:‏ لا يظهر تفاوت بين إضافة رب إلى ياء المتكلم وبين إضافته إلى جمع المتكلم اه‏.‏ ومما نقلنا يعلم وجه إضافة ‏{‏رَبّ‏}‏ هنا إلى ضمير الجمع، ولا أدري ماذا أراد أبو حيان بكلامه هذا، وما يرد عليه أظهر من أن يخفى، وإنما قال عليه السلام‏:‏ ‏{‏وَمَا يخفى‏}‏ إلى آخره دون أن يقول‏:‏ ويعلم ما في السموات والأرض تحقيقاً لما عناه بقوله‏:‏ ‏{‏تَعْلَمُ مَا نُخْفِى‏}‏ من أن علمه تعالى بذلك ليس على وجه يكون فيه شائبة خفاء بالنسبة إلى علمه تعالى كما يكون ذلك بالنسبة إلى علوم المخلوقات‏.‏

وكلمة ‏{‏فِى‏}‏ متعلقة بمحذوف وقع صفة لشيء أي لشيء كائن فيهما أعم من أن يكون ذلك على وجه الاستقرار فيهما أو على وجه الجزئية منهما، وجوز أن تتعلق بيخفى وهو كما ترى‏.‏ وتقديم الأرض على السماء مع توسيط ‏{‏لا‏}‏ بينهما باعتبار القرب والبعد منا المستعدين للتفاوت بالنسبة إلى علومنا‏.‏ والمراد من ‏{‏السماء‏}‏ ما يشمل السموات كلها ولو أريد من ‏{‏الارض‏}‏ جهة السفل ومن السماء جهة العلو كما قيل جاز، والالتفات من الخطاب إلى الاسم الجليل للإشعار بعلة الحكم والإيذان بعمومه لأنه ليس بشأن يختص به أو بمن يتعلق به بل شامل لجميع الأشياء فالمناسب ذكره تعالى بعنوان مصحح لمبدئية الكل، وعن الجبائي أن هذا من كلام الله تعالى شأنه وارد بطريق الاعتراض لتصديقه عليه السلام كقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وكذلك يَفْعَلُونَ‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏ 34‏]‏ والأكثرون على الأول‏.‏ ‏{‏وَمِنْ‏}‏ على الوجهين للاستغراق‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏39‏]‏

‏{‏الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ ‏(‏39‏)‏‏}‏

‏{‏الحمد للَّهِ الذى وَهَبَ لِى عَلَى الكبر‏}‏ أي مع كبر سني ويأسي عن الولد فعلى بمعنى مع كما في قوله‏:‏

إني على ما ترين من كبري *** أعرف من أين تؤكل الكتف

والجار والمجرور في موضع الحال، والتقييد بذلك استعظاماً للنعمة وإظهاراً لشكرها، ويصح جعل ‏{‏عَلَىَّ‏}‏ بمعناها الأصلي والاستعلاء مجازي كما في «البحر»، ومعنى استعلائه على الكبر أنه وصل غايته فكأنه تجاوزه وعلا ظهره كما يقال‏:‏ على رأس السنة، وفيه من المبالغة ما لا يخفى، وقال بعضهم‏:‏ لو كانت للاستعلاء لكان الأنسب جعل الكبر مستعلياً عليه كما في قولهم‏:‏ على دين، وقوله‏:‏ ‏{‏وَلَهُمْ عَلَىَّ ذَنبٌ‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 14‏]‏ بل الكبر أولى بالاستعلاء منهما حيث يظهر أثره في الرأس ‏{‏واشتعل الرأس شَيْباً‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 4‏]‏ نعم يمكن أن تجري على حقيقتها بجعلها متعلقة بالتمكن والاستمرار أي متمكناً مستمراً على الكبر، وهو الأنسب لإظهار ما في الهيئة من الآية حيث لم يكن في أول الكبر اه وفيه غفلة عما ذكرنا ‏{‏إسماعيل وإسحاق‏}‏ روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه وهب له إسماعيل وهو ابن تسع وتسعين سنة، ووهب له إسحاق وهو ابن مائة واثنتي عشرة سنة، وفي رواية أنه ولد له إسماعيل لأربع وستين، وإسحاق لسبعين، وعن ابن جبير لم يولد لإبراهيم عليه السلام إلا بعد مائة وسبع عشرة سنة ‏{‏إِنَّ رَبّى‏}‏ ومالك أمري ‏{‏لَسَمِيعُ الدعاء‏}‏ أي لمجيبه فالسمع بمعنى القبول والإجابة مجاز كما في سمع الله تعالى لمن حمده، وقولهم‏:‏ سمع الملك كلامه إذا اعتد به وقبله، وهو فعيل من أمثلة المبالغة واعمله سيبويه وخالف في ذلك جمهور البصريين، وخالف الكوفيون فيه وفي أعمال سائر أمثلتها، وهو إذا قلنا بجواز عمله مضاف لمفعوله أن أريد به المستقبل، وقيل‏:‏ إنه غير عامل لأنه قصد به الماضي أو الاستمرار، وجوز الزمخشري أن يكون مضافاً لفاعله المجازي فالأصل سميع دعاؤه بجعل الدعاء نفسه سامعاً، والمراد أن المدعو وهو الله تعالى سامع‏.‏ وتعقبه أبو حيان بأنه بعيد لاستلزامه أن يكون من باب الصفة المشبهة وهو متعد ولا يجوز ذلك إلا عند الفارسي حيث لا يكون لبس نحو زيد ظالم العبيد إذا علم أن له عبيداً ظالمين، وههنا فيه إلباس لظهور أنه من إضافة المثال للمفعول انتهى، وهو كلام متين‏.‏

والقول بأن اللبس منتف لأن المعنى على الإسناد المجازي كلام واه لأن المجاز خلاف الظاهر فاللبس فيه أشد ومثله القول بأن عدم اللبس إنما يشترط في إضافته إلى فاعله على القطع، وهذا كما قال بعض الأجلة مع كونه من تتمة الحمد والشكر لما فيه من وصفه تعالى بأن قبول الدعاء عادته سبحانه المستمرة تعليل على طريق التذييل للهبة المذكورة؛ وفيه إيذان بتضاعيف النعمة فيها حيث وقعت بعد الدعاء بقوله‏:‏

‏{‏رَبّ هَبْ لِى مِنَ الصالحين‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 100‏]‏ فاقترنت الهبة بقبول الدعوة، وذكر بعضهم أن موقع قوله‏:‏ ‏{‏الحمد للَّهِ‏}‏ وتذييله موقع الاعتراض بين أدعيته عليه السلام في هذا المكان تأكيداً للطلب بتذكير ما عهد من الإجابة، يتوسل إليه سبحانه بسابق نعمته تعالى في شأنه كأنه عليه السلام يقول اللهم استجب دعائي في حق ذريتي في هذا المقام فإنك لم تزل سميع الدعاء وقد دعوتك على الكبر أن تهب لي ولداً فأجبت دعائي وهبت لي إسماعيل وإسحاق ولا يخفى أن إسحاق عليه السلام لم يكن مولوداً عند دعائه عليه السلام السابق فالوجه أن لا يجعل ذلك اعتراضاً بل يحمل على أن الله تعالى حكى جملاً مما قاله إبراهيم عليه السلام في أحايين مختلفة تشترك كلها فيما سيق له الكلام من كونه عليه السلام على الإيمان والعمل الصالح وطلب ذلك لذريته وأن ولده الحقيقي من تبعه على ذلك فترك العناد والكفر، وقد ذكر هذا صاحب الكشف‏.‏

ومما يعضده ما أخرجه ابن جرير‏.‏ وابن المنذر‏.‏ وابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال في قوله‏:‏ ‏{‏الحمد للَّهِ‏}‏ الخ‏:‏ قال‏.‏ هذا بعد ذلك بحين، ووحد عليه السلام الضمير في ‏{‏رَبّ‏}‏ وإن كان عقيب ذكر الولدين لما أن نعمة الهبة فائضة عليه عليه السلام خاصة وهما من النعم لا من المنعم عليهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏40‏]‏

‏{‏رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ ‏(‏40‏)‏‏}‏

‏{‏رَبّ اجعلنى مُقِيمَ الصلاة‏}‏ معدلاً لها فهو مجاز من أقمت العود إذا قومته، وأراد بهذا الدعاء الديمومة على ذلك، وجوز بعضهم أن يكون المعنى مواظباً عليها، وبعض عظماء العلماء أخذ الأمرين في تفسير ذلك على أن الثاني قيد للأول مأخوذ من صيغة الاسم والعدول عن الفعل كما أن الأول مأخوذ من موضوعه على ماق يل، فلا يلزم استعمال اللفظ في معنيين مجازيين، وتوحيد ضمير المتكلم مع شمول دعوته عليه السلام لذريته أيضاً حيث قال‏:‏ ‏{‏وَمِن ذُرّيَتِى‏}‏ للإشعار بأنه المقتدى في ذلك وذريته أتباع له فإن ذكرهم بطريق الاستطراد ‏{‏وَمِنْ‏}‏ للتبعيض، والعطف كما قال أبو البقاء على مفعول ‏{‏اجعل‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ 35‏]‏ الأول أي ومن ذريتي مقيم الصلاة‏.‏

وفي «الحواشي الشهابية» أن الجار والمجرور في الحقيقة صفة للمعطوف على ذلك أي وبعضاً من ذريتي ولولا هذا التقدير كان ركيكاً، وإنما خص عليه السلام هذا الدعاء ببعض ذريته لعلمه من جهته تعالى أن بعضاً منهم لا يكون مقيم الصلاة بأن يكون كافراً أو مؤمناً لا يصلي، وجوز أن يكون علم من استقرائه عادة الله تعالى في الأمم الماضية أن يكون في ذريته من لا يقيمها وهذا كقوله‏:‏ ‏{‏واجعلنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 128‏]‏‏.‏

‏{‏رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاء‏}‏ ظاهره دعائي هذا المتعلق بجعلي وجعل بعض ذريتي مقيمي الصلاة ولذلك جىء بضمير الجماعة، وقيل‏:‏ الدعاء بمعنى العبادة أي تقبل عبادتي‏.‏ وتعقب بأن الأنسب أن يقال فيه دعاءنا حينئذٍ‏.‏

وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وحمزة، وهبيرة عن حفص ‏{‏دُعَائِى‏}‏ بياء ساكنة في الوصل، وفي رواية البزي عن ابن كثير أنه يصل ويقف بياء‏.‏

وقال قنبل‏:‏ إنه يشم الياء في الوصل ولا يثبتها ويقف عليها بالألف‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏41‏]‏

‏{‏رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ ‏(‏41‏)‏‏}‏

‏{‏رَبَّنَا اغفر لِى‏}‏ أي ما فرط مني مما أعده ذنباً ‏{‏وَلِوَالِدَىَّ‏}‏ أي لأمي وأبي، وكانت أمه على ما روي عن الحسن مؤمنة فلا إشكال في الاستغفار لها، وأما استغفاره لأبيه فقد قيل في الاعتذار عنه إنه كان قبل أن يتبين له أنه عدو لله سبحانه والله تعالى قد حكى ما قاله عليه السلام في أحايين مختلفة، وقيل‏:‏ إنه عليه السلام نوى شرطية الإسلام والتوبة وإليه ذهب ابن الخازن، وقيل‏:‏ أراد بوالده نوحاً عليه السلام، وقيل‏:‏ أراد بوالده آدم وبوالدته حواء عليهما السلام وإليه ذهب بعض من قال بكفر أمه والوجه ما تقدم‏.‏

وقالت الشيعة‏:‏ إن والديه عليه السلام كانا مؤمنين ولذا دعا لهما، وأما الكافر فأبوه والمراد به عمه أو جده لأمه، واستدلوا على إيمان أبويه بهذه الآية ولم يرضوا ما قيل فيها حتى القول الأول بناءً على زعمهم أن هذا الدعاء كان بعد الكبر وهبة إسماعيل وإسحاق عليهما السلام له وقد كان تبين له في ذلك الوقت عداوة أبيه الكافر لله تعالى‏.‏

وقرأ الحسن بن علي رضي الله تعالى عنهما‏.‏ وأبو جعفر محمد‏.‏ وزيد ابنا علي‏.‏ وابن يعمر‏.‏ والزهري‏.‏ والنخعي ‏{‏ولولدي‏}‏ بغير ألف وبفتح اللام تثنية ولد يعني بهما إسماعيل وإسحاق‏.‏ وأنكر عاصم الجحدري هذه القراءة ونقل أن في مصحف أبي ‏{‏ولأبوي‏}‏ وفي بعض المصاحف ‏{‏ولذريتي‏}‏ وعن يحيى بن يعمر ‏{‏ولولدي‏}‏ بضم الواو وسكون اللام فاحتمل أن يكون جمع ولد كأسد في أسد ويكون قد دعا عليه السلام لذريته، وأن يكون لغة في الولد كما في قول الشاعر‏:‏

فليت زياداً كان في بطن أمه *** وليت زياداً كان ولد حمار

ومثل ذلك العدم والعدم، وقرأ ابن جبير ‏{‏لِى وَلِوَالِدَىَّ‏}‏ بإسكان الياء على الإفراد كقوله‏:‏ ‏{‏واغفر لأبي‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 86‏]‏ ‏{‏وَلِلْمُؤْمِنِينَ‏}‏ كافة من ذريته وغيرهم، ومن هنا قال الشعبي فيما رواه عنه ابن أبي حاتم‏:‏ ما يسرني بنصيبي من دعوة نوح وإبراهيم عليهما السلام للمؤمنين والمؤمنات حمر النعم، وللإيذان باشتراك الكل في الدعاء بالمغفرة جىء بضمير الجماعة ‏{‏يَوْمَ يَقُومُ الحساب‏}‏ أي يثبت ويتحقق، واستعمال القيام فيما ذكر إما مجاز مرسل أو استعارة، ومن ذلك قامت الحرب والسوق، وجوز أن يكون قد شبه الحساب برجل قائم على الاستعارة المكنية وأثبت له القيام على التخييل، وأن يكون المراد يقوم أهل الحساب فحذف المضاف أو أسند إلى الحساب ما لأهله مجازاً، وجعل ذلك العلامة الثاني في شرح التلخيص مثل ضربه التأديب مما فيه الإسناد إلى السبب الغائي أي يقوم أهله لأجله، وذكر السالكوتي إنه إنما قال مثله لأن الحساب ليس ما لأجله القيام حقيقة لكنه شبيه به في ترتبه عليه وفيه وبحث‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏42‏]‏

‏{‏وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ ‏(‏42‏)‏‏}‏

‏{‏وَلاَ تَحْسَبَنَّ الله غافلا عَمَّا يَعْمَلُ الظالمون‏}‏ خطاب لكل من توهم غفلته تعالى، وقيل‏:‏ للنبي صلى الله عليه وسلم كما هو المتبادر، والمراد من النهي تثبيته عليه الصلاة والسلام على ما هو عليه من عدم ظن أن الغفلة تصدر منه عز شأنه كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَدْعُ مَعَ الله إلها ءاخَرَ‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 88‏]‏ ‏{‏وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ المشركين‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 14‏]‏ أي دم على ذلك، وهو مجاز كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يَأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ ءامِنُواْ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 136‏]‏ وفيه إيذان بكون ذلك الحسبان واجب الاحتراز عنه في الغاية حتى نهى عنه من لا يمكن تعاطيه، وجوز أن يكون المراد من ذلك على طريق الكناية أو المجاز بمرتبتين الوعيد والتهديد، والمعنى لا تحسبن الله تعالى يترك عقابهم للطفه وكرمه بل هو معاقبهم على القليل والكثير، وأن يكون ذلك استعارة تمثيلية أي لا تحسبنه تعالى يعاملهم معاملة الغافل عما يعملون ولكن معاملة الرقيب المحاسب على النقير والقطمير، وإلى هذه الأوجه أشار الزمخشري‏.‏ وتعقب الوجه الأول بأنه غير مناسب لمقام النبوة لأنه عليه الصلاة والسلام لا يتوهم منه عدم الدوام على ما هو عليه من عدم الحسبان ليثبت، وفيه نظر‏.‏

وفي «الكشف» الوجه هو الأول لأن في إطلاق الغافل عليه سبحانه وإن كان على المجاز ركة يصان كلام الله تعالى عنها، وفي الكناية النظر إلى المجموع فلم يجسر العاقل عليه تعالى عنه، ويجوز أن يكون الأول مجازاً في المرتبة الثانية بجعل عدم الغفلة مجازاً عن العلم، ثم جعله مجازاً عن الوعيد غير سديد لعدم منافاة إرادة الحقيقة‏.‏

والأسلم من القيل والقال ما ذكرناه أولاً من كون الخطاب لكل من توهم غفلته سبحانه وتعالى لغير معين، وهو الذي اختاره أبو حيان، وعن ابن عيينة أن هذا تسلية للمظلوم وتهديد للظالم فقيل له‏:‏ من قال هذا‏؟‏ فغضب وقال‏:‏ إنما قاله من علمه، وقد نقل ذلك في الكشاف فاستظهر صاحب الكشف كونه تأييداً لكون الخطاب لغير معين، وجوز أن يكون جارياً على الأوجه إذ على تقدير اختصاص الخطاب به عليه الصلاة والسلام أيضاً لا يخلو عن التسلية للطائفتين فتأمل، والمراد بالظالمين أهل مكة الذين عدت مساويهم فيما سبق أو حنس الظالمين وهم داخلون دخولاً أولياً، والآية على ما قال الطيبي مردودة إلى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قَلَ تَمَتَّعُواْ‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ 30‏]‏ ‏{‏وَقلَ لّعِبَادِىَ‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ 31‏]‏ واختار جعلها تسلية له عليه الصلاة والسلام وتهديداً للظالمين على سبيل العموم‏.‏

وقرأ طلحة «ولا تحسب» بغير نون التوكيد ‏{‏إِنَّمَا يُؤَخّرُهُمْ‏}‏ يمهلهم متمتعين بالحظوظ الدنيوية ولا يعجل عقوبتهم، وهو استئناف وقع تعليلاً للنهي السابق أي لا تحسبن الله تعالى غافلاً عن عقوبة أعمالهم لما ترى من التأخير إنما ذلك لأجل هذه الحكمة، وإيقاع التأخير عليهم مع أن المؤخر إنما هو عذابهم قيل‏:‏ لتهويل الخطب وتفظيع الحال ببيان أنهم متوجهون إلى العذاب مرصدون لأمر مالا أنهم باقون باختيارهم، وللدلالة على أن حقهم من العذاب هو الاستئصال بالمرة وأن لا يبقى منهم في الوجود عين ولا أثر، وللإيذان بأن المؤخر ليس من جملة العذاب وعنوانه، ولو قيل‏:‏ إنما يؤخر عذابهم لما فهم ذلك‏.‏

وقرأ السلمي‏.‏ والحسن‏.‏ والأعرج‏.‏ والمفضل عن عاصم، ويونس بن حبيب عن أبي عمرو‏.‏ وغيرهم ‏{‏نؤخرهم‏}‏ بنون العظمة وفيه التفات ‏{‏يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ‏}‏ هائل ‏{‏تَشْخَصُ فِيهِ الابصار‏}‏ أي ترتفع أبصار أهل الموقف فيدخل في زمرتهم الظالمون المعهودون دخولاً أولياً أي تبقى مفتوحة لا تطرف كما قال الراغب من هول ما يرونه، وفي «البحر» شخص البصر أحد النظر ولم يستقر مكانه، والظاهر أن اعتبار عدم الاستقرار لجعل الصيغة من شخص الرجل من بلده إذا خرج منها فإنه يلزمه عدم القرار فيها أو من شخص بفلان إذا ورد عليه ما يقلقه كما في الأساس‏.‏

وحمل بعضهم الألف واللام على العهد أي أبصارهم لأنه المناسب لما بعده والظاهر مما روي عن قتادة فقد أخرج عبد بن حميد‏.‏ وغيره عنه أنه قال في الآية‏:‏ شخصت فيه والله أبصارهم فلا ترتد إليهم، واختار بعضهم حمل ‏{‏ءالَ‏}‏ على العموم قال‏:‏ لأنه أبلغ في التهويل، ولا يلزم عليه التكرير مع بعض الصفات الآتية، وسيأتي قريباً إن شاء الله تعالى ما قيل فيه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏43‏]‏

‏{‏مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ ‏(‏43‏)‏‏}‏

‏{‏مُهْطِعِينَ‏}‏ مسرعين إلى الداعي قاله ابن جبير‏.‏ وقتادة، وقيده في «البحر» بقوله‏:‏ بذلة واستكانة كإسراع الأسير والخائف، وقال الأخفش‏:‏ مقبلين للإصغاء وأنشد‏:‏

بدجلة دارهم ولقد أراهم *** بدجلة مهطعين إلى السماع

وقال مجاهد‏:‏ مد يمين النظر لا يطرفون، وقال أحمد بن يحيى‏:‏ المهطع الذي ينظر في ذلك وخشوع لا يقلع بصره، وروى ابن الأنباري أن الإهطاع التجميح وهو قبض الرجل ما بين عينيه، وقيل‏:‏ إن الإهطاع مد العنق والهطع طول العنق، وذكر بعضهم أن أهطع وهطع بمعنى وأن كل المعاني تدور على الإقبال ‏{‏مُقْنِعِى رُؤُوسَهُمْ‏}‏ رافعيها مع الإقبال بأبصارهم إلى ما بين أيديهم من غير التفات إلى شيء، قاله ابن عرفة‏.‏ والقتيبي‏.‏

وأنشد الزجاج قول الشماخ يصف إبلاً ترعى أعلا الشجر‏:‏

يباكرن العضاة بمقنعات *** نواجذهن كالحد الوقيع

وأنشده الجوهري لكون الإقناع انعطاف الإنسان إلى داخل الفم يقال‏:‏ فم مقنع أي معطوفة أسنانه إلى داخله وهو الظاهر، وفسر ابن عباس رضي الله تعالى عنهما المقنع بالرافع رأسه أيضاً وأنشد له قول زهير‏:‏

هجان وحمر مقنعات رؤسها *** وأصفر مشمول من الزهر فاقع

ويقال‏:‏ أقنع رأسه نكسه وطأطأه فهو من الأضداد، قال المبرد‏.‏ وكونه بمعنى رفع أعرف في اللغة اه، وقيل‏:‏ ومن المعنى الأول قنع الرجل إذا رضي بما هو فيه كأنه رفع رأسه عن السؤال‏:‏ وقد يقال‏:‏ إنه من الثاني كأنه طأطأ رأسه ولم يرفعه للسؤال ولم يستشرف إلى غير ما عنده، ونصب الوصفين على أنهما حالان من مضاف محذوف أي أصحاب الأبصار بناءً على أنه يقال‏:‏ شخص زيد ببصره أو الأبصار تدل على أصحابها فجاءت الحال من المدلول عليه ذكر ذلك أبو البقاء، وجوز أن يكون ‏{‏مُهْطِعِينَ‏}‏ منصوباً بفعل مقدر أي تبصرهم مهطعين و‏{‏مُقْنِعِى رُؤُوسَهُمْ‏}‏ على هذا قيل‏:‏ حال من المستتر في ‏{‏مُهْطِعِينَ‏}‏ فهي حال متداخلة وإضافته غير حقيقية فلذا وقع حالاً؛ وقال بعض الأفاضل‏:‏ إن في اعتبار الحالية من أصحاب حسبما ذكر أولاً ما لا يخفى من البعد والتكلف، والأولى والله تعالى أعلم جعل ذلك حالاً مقدرة من مفعول ‏{‏يُؤَخِرُهُمْ‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ 42‏]‏ وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏تَشْخَصُ فِيهِ الابصار‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ 42‏]‏ بيان حال عموم الخلائق‏.‏ ولذلك أوثر فيه الجملة الفعلية، فإن المؤمنين المخلصين لا يستمرون على تلك الحال بخلاف الكفار حيث يستمرون عليها ولذلك عبر عن حالهم بما يدل على الدوام والثبات، فلا يرد على هذا توهم التكرار بين ‏{‏مُهْطِعِينَ‏}‏ و‏{‏تَشْخَصُ فِيهِ الابصار‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ 42‏]‏ على بعض التفاسير، وبنحو ذلك رفع التكرار بين الأول، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لاَ يَرْتَدُّ طَرْفُهُمْ‏}‏ بمعنى لا يرجع إليهم تحريك أجفانهم حسبما كان يرجع إليهم كل لحظة، فالطرف باق على أصل معناه وهو تحريك الجفن، والكلام كناية عن بقاء العين مفتوحة على حالها‏.‏

وجوز أن يراد بالطرف نفس الجفن مجازاً لأنه يكون فيه ذلك أي لا ترجع إليهم أجفانهم التي يكون فيها الطرف، وقال الجوهري‏:‏ الطرف العين ولا يجمع لأنه في الأصل مصدر فيكون واحداً ويكون جمعاً وذكر الآية، وفسره بذلك أبو حيان أيضاً وأنشد قول الشاعر‏:‏

وأغض طرفي ما بدت لي جارتي *** حتى يوارى جارتي مأواها

وليس ما ذكر متعيناً فيه وهو معنى مجازي له وكذا النظر، وجوز إرادته على معنى لا يرجع إليهم نظرهم لينظروا إلى أنفسهم فضلاً عن شيء آخر بل يبقون مبهوتين، ولا ينبغي كما في «الكشف» أن يتخيل تعلق ‏{‏إِلَيْهِمُ‏}‏ بما بعده على معنى لا يرجع نظرهم إلى أنفسهم أي لا يكون منهم نظر كذلك لأن صلة المصدر لا تتقدم، والمسألة في مثل ما نحن فيه خلافية، ودعوى عدم الجمع ادعاها جمع، وادعى أبو البقاء أنه قد جاء مجموعاً هذا، وأنت خبير بأن لزوم التكرار بين ‏{‏مُهْطِعِينَ‏}‏ و‏{‏لاَ يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ‏}‏ على بعض التفاسير متحقق ولا يدفعه اعتبار الحالية من مفعول ‏{‏يُؤَخِرُهُمْ‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ 42‏]‏ على أن بذلك لا يندفع عرق التكرار رأساً بين ‏{‏تَشْخَصُ فِيهِ الابصار‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ 42‏]‏ وكل من الأمرين المذكورين كما لا يخفى على من صحت عين بصيرته‏.‏ وفي إرشاد العقل السليم أن جملة ‏{‏لاَ يَرْتَدُّ‏}‏ الخ حال أو بدل من ‏{‏مُقْنِعِى‏}‏ الخ أو استئناف؛ والمعنى لا يزول ما اعتراهم من شخوص الإبصار وتأخيره عما هو من تتمته من الإهطاع والإقناع مع ما بينه وبين الشخوص المذكور من المناسبة لتربية هذا المعنى، وكأنه أراد بذلك دفع التكرار، وفي انفهام لا يزول الخ من ظاهر التركيب خفاء، واعتبر بعضهم عدم الاستقرار في الشخوص وعدم الطرف هنا، فاعترض عليه بلزوم المنافاة، وأجيب بأن الثاني بيان حال آخر وأن أولئك الظالمين تارة لا تقر أعينهم وتارة يبهتون فلا تطرف أبصارهم، وقد جعل الحالتان المتنافيتان لعدم الفاصل كأنهما في حال واحد كقول امرىء القيس‏:‏

مكر مفر مقبل مدبر معا *** كجلمود صخر حطه السيل من عل

وهذا يحتاج إليه على تقدير اعتبار ما ذكر سواء اعتبر كون الشخوص وما بعده من أحوال الظالمين بخصوصهم أم لا، والأولى أن لا يعتبر في الآية ما يحوج لهذا الجواب، وأن يختار من التفاسير ما لا يلزمه صريح التكرار، وأن يجعل شخوص الأبصار حال عموم الخلائق وما بعده حال الظالمين المؤخرين فتأمل‏.‏

‏{‏وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاء‏}‏ أي خالية من العقل والفهم لفرط الحيرة والدهشة، ومنه قيل للجبان، والأحمق‏:‏ قلبه هواء أي لا قوة ولا رأي فيه، ومن ذلك قول زهير‏:‏

كأن الرحل منها فوق صعل *** من الظلمان جؤجؤه هواء

وقول حسان‏:‏

ألا بلغ أبا سفيان عني *** فأنت مجوف نخب هواء

وروي معنى ذلك عن أبي عبيدة‏.‏ وسفيان، وقال ابن جريج‏:‏ صفر من الخير خالية منه، وتعقب بأنه لا يناسب المقام‏.‏ وأخرج ابن أبي شيبة‏.‏ وابن المنذر عن ابن جبير أنه قال‏:‏ أي تمور في أجوافهم إلى حلوقهم ليس لها مكان تستقر فيه، والجملة في موضع الحال أيضاً والعامل فيها إما ‏{‏يَرْتَدَّ‏}‏ أو ما قبله من العوامل الصالحة للعمل‏.‏ وجوز أن تكون جملة مستقلة، وإلى الأول ذهب أبو البقاء وفسر ‏{‏هَوَاء‏}‏ بفارغة، وذكر أنه إنما أفرد مع كونه خبراً لجمع لأنه بمعنى فارغة وهو يكون خبراً عن جمع كما يقال‏:‏ أفئدة فارغة لأن تاء التأنيث فيه يدل على تأنيث الجمع الذي في أفئدتهم، ومثل ذلك أحوال صعبة وأفعال فاسدة، وقال مولانا الشهاب‏:‏ الهواء مصدر ولذا أفرد، وتفسيره باسم الفاعل كالخالي بيان للمعنى المراد منه المصحح للحمل فلا ينافي المبالغة في جعل ذلك عين الخلاء، والمتبادر من كلام غير واحد أن الهواء ليس بمعنى الخلاء بل بالمعنى الذي يهب على الذهن من غير أعمال مروحة الفكر، ففي «البحر» بعد سرد أقوال لا يقضي ظاهرها بالمصدرية أن الكلام تشبيه محض لأن الأفئدة ليست بهواء حقيقة‏.‏ ويحتمل أن يكون التشبيه في فراغها من الرجاء والطمع في الرحمة‏.‏ وأن يكون في اضطراب أفئدتهم وجيشانها في الصدور وإنها تجىء وتذهب وتبلغ الحناجر‏.‏ وهذا في معنى ما روي آنفاً عن ابن جبير‏.‏ وذكر في إرشاد العقل السليم ما هو ظاهر في أن الكلام على التشبيه أيضاً حيث قال بعد تفسير ذلك بما ذكرنا أولاً‏:‏ كأنها نفس الهواء الخالي عن كل شاغل هذا؛ ثم إنهم اختلفوا في وقت حدوث تلك الأحوال فقيل عند المحاسبة بدليل ذكرها عقيب قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يَوْمَ يَقُومُ الحساب‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ 41‏]‏ وقيل‏:‏ عند إجابة الداعي والقيام من القبور‏.‏ وقيل عند ذهاب السعداء إلى الجنة والأشقياء إلى النار فتذكر ولا تغفل‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏44‏]‏

‏{‏وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ ‏(‏44‏)‏‏}‏

‏{‏وَأَنذِرِ الناس‏}‏ خطاب لسيد المخاطبين صلى الله عليه وسلم بعد إعلامه أن تأخير عذابهم لماذا وأمر له بإنذارهم وتخويفهم منه فالمراد بالناس الكفار المعبر عنهم بالظالمين كما يقتضيه ظاهر إتيان العذاب وإلى ذلك ذهب أبو حيان وغيره‏.‏

ونكتة العدول إليه من الإضمار على ما قاله شيخ الإسلام الإشعار بأن المراد بالإنذار هو الزجر عما هم عليه من الظلم شفقة عليهم لا التخويف للإزعاج والإيذاء فالمناسب عدم ذكرهم بعنوان الظلم، وقال الجبائي‏:‏ وأبو مسلم‏:‏ المراد بالناس ما يشتمل أولئك الظالمين وغيرهم من المكلفين، والإنذار كما يكون للكفار يكون لغيرهم كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ اتبع الذكر‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 11‏]‏ والإتيان يعم الفريقين من كونهما في الموقف وإن كان لحوقه بالكفار خاصة، وأياً ما كان فالناس مفعول أول لأنذر وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏يَوْمَ يَأْتِيهِمُ العذاب‏}‏ مفعوله الثاني على معنى أنذرهم هوله وما فيه‏.‏ فالإيقاع عليه مجازي أو هو بتقدير مضاف، ولا يجوز أن يكون ظرفاً للإنذار لأنه في الدنيا، والمراد بهذا اليوم اليوم المعهود وهو اليوم الذي وصف بما يذهب الألباب وهو يوم القيامة، وقيل‏:‏ هو يوم موتهم معذبين بالسكرات ولقاء الملائكة عليهم السلام بلا بشرى‏.‏ وروي ذلك عن أبي مسلم، أو يوم هلاكهم بالعذاب العاجل، وتعقب بأنه يأباه القصر السابق، وأجيب بما فيه ما فيه‏.‏

‏{‏فَيَقُولُ الذين ظَلَمُواْ‏}‏ أي فيقولون، والعدول عنه إلى ما في «النظم الجليل» للتسجيل عليهم بالظلم والإشعار بعليته لما ينالهم من الشدة المنبىء عنها القول؛ وفي العدول عن الظالمين المتكفل بما ذكر مع اختصاره وسبق الوصف به للإيذان على ما قيل بأن الظلم في الجملة كاف في الإفضاء إلى ما أفضوا إليه من غير حاجة إلى الاستمرار عليه كما ينبىء عنه صيغة اسم الفاعل، والمعنى على ما قال الجبائي وأبو مسلم الذين ظلموا منهم وهم الكفار، وقيل‏:‏ يقول كل من ظلم بالشرك والتكذيب من المنذرين وغيرهم من الأمم الخالية‏:‏ ‏{‏رَبَّنَا أَخّرْنَا‏}‏ أي عن العذاب أو أخر عذابنا، ففي الكلام تقدير مضاف أو تجوز في النسبة، قال الضحاك‏.‏ ومجاهد‏:‏ أنهم طلبوا الرد إلى الدنيا والإمهال ‏{‏إلى أَجَلٍ قَرِيبٍ‏}‏ أي أمد وحد من الزمان قريب، وقيل‏:‏ إنهم طلبوا رفع العذاب والرجوع إلى حال التكليف مدة يسيرة يعملون فيها ما يرضيه سبحانه‏.‏

والمعنى على ما روي عن أبي مسلم أخر آجالنا وابقنا أياماً ‏{‏نُّجِبْ دَعْوَتَكَ‏}‏ أي الدعوة إليك وإلى توحيدك أو دعوتك لنا على ألسنة الرسل عليهم السلام، ففيه إيماء إلى أنهم صدقوهم في أنهم رسل الله سبحانه وتعالى‏.‏

‏{‏وَنَتَّبِعِ الرسل‏}‏ فيما جاؤا به أي نتدارك ما فرطنا به من إجابة الدعوة واتباع الرسل عليهم السلام، ولا يخلو ذكر الجملتين عن تأكيد والمقام حري به، وجمع إما باعتبار اتفاق الجميع على التوحيد وكون عصيانهم للرسول صلى الله عليه وسلم عصياناً لهم جميعاً عليهم السلام، وأما باعتبار أن المحكي كلام ظالمي الأمم جميعاً والمقصود بيان وعد كل أمة بالتوحيد واتباع رسولها على ما قيل‏.‏

‏{‏أَوَ لَمْ تَكُونُواْ أَقْسَمْتُمْ مّن قَبْلُ‏}‏ على تقدير القول معطوفاً على «فيقول» والمعطوف عليه هذه الجملة أي فيقال لهم توبيخاً وتبكيتاً‏:‏ ألم تؤخروا في الدنيا ولم تكونوا حلفتم إذ ذاك بألسنتكم بطراً وأشراً وسفهاً وجهلاً ‏{‏مَا لَكُمْ مّن زَوَالٍ‏}‏ مما أنتم عليه من التمتع بالحظوظ الدنياوية أو بألسنة الحال ودلالة الأفعال حيث بنيتم مشيداً وأملتم بعيداً ولم تحدثوا أنفسكم بالانتقال إلى هذه الأحوال والأهوال، وفيه إشعار بامتداد زمان التأخير وبعد مداه أو مالكم من زوال وانتقال من دار الدنيا إلى دار أخرى للجزاء كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَأَقْسَمُواْ بالله جَهْدَ أيمانهم لاَ يَبْعَثُ الله مَن يَمُوتُ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 38‏]‏ وروي هذا عن مجاهد، وأياً ما كان ‏{‏فمالكم‏}‏ الخ جواب القسم، و‏{‏صَلَحَ مِنْ‏}‏ صلة لتأكيد النفي، وصيغة الخطاب فيه لمراعاة حال الخطاب في ‏{‏أَقْسَمْتُمْ‏}‏ كما في حلف بالله تعالى ليخرجن وهو أدخل في التوبيخ من أن يقال ما لنا مراعاة لحال المحكي الواقع في جواب قسمهم، وقيل هو ابتداء كلام من قبل الله تعالى جواباً لقولهم‏:‏ ‏{‏رَبَّنَا أَخّرْنَا‏}‏ أي مالكم من زوال عن هذه الحال وجواب القسم لا يبعث الله من في القبور محذوفاً وهو خلاف المتبادر‏.‏

وهذا أحد أجوبة يجاب بها أهل النار على ما في بعض الآثار‏.‏ فقد ذكر البيهقي عن محمد بن كعب القرظي أنه قال‏:‏ لأهل النار خمس دعوات يجيبهم الله تعالى في أربع منها فإذا كانت الخامسة لم يتكلموا بعدها أبداً، يقولون‏:‏ ‏{‏رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثنتين وَأَحْيَيْتَنَا اثنتين فاعترفنا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إلى خُرُوجٍ مّن سَبِيلٍ‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 11‏]‏ فيجيبهم الله عز وجل ‏{‏ذَلِكُم بِأَنَّهُ إِذَا دُعِىَ الله وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِن يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُواْ فالحكم للَّهِ العلى الكبير‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 12‏]‏ ثم يقولون‏:‏ ‏{‏ربنا أبصرنا وسمعنا فارجعنا نعمل صالحاً إنا موقنون‏}‏ ‏[‏السجدة‏:‏ 12‏]‏ فيجيبهم جل شأنه ‏{‏فَذُوقُواْ بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هذا‏}‏ ‏[‏السجدة‏:‏ 14‏]‏ الآية، ثم يقولون‏:‏ ‏{‏رَبَّنَا أَخّرْنَا إلى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُّجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرسل‏}‏ فيجيبهم تبارك وتعالى‏:‏ ‏{‏أَوَ لَمْ تَكُونُواْ أَقْسَمْتُمْ مّن قَبْلُ‏}‏ الآية، ثم يقولون‏:‏ ‏{‏رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صالحا غَيْرَ الذى كُنَّا نَعْمَلُ‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏ 37‏]‏ فيجيبهم جل جلاله‏:‏ ‏{‏أَوَ لَمْ نُعَمّرْكُمْ مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَاءكُمُ النذير فَذُوقُواْ فَمَا للظالمين مِن نَّصِيرٍ‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏ 37‏]‏ فيقولون‏:‏ ‏{‏رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْماً ضَالّينَ‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 106‏]‏ فيجيبهم جل وعلا‏:‏ ‏{‏اخسئوا فِيهَا وَلاَ تُكَلّمُونِ‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 108‏]‏ فلا يتكلمون بعدها أن هو إلا زفير وشهيق، وعند ذلك انقطع رجاؤهم وأقبل بعضهم ينبح في وجه بعض وأطبقت عليهم جهنم، اللهم إنا نعوذ بك من غضبك ونلوذ بكنفك من عذابك ونسألك التوفيق للعمل الصالح في يومنا لغدنا والتقرب إليك بما يرضيك قبل أن يخرج الأمر من يدنا‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏45‏]‏

‏{‏وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الْأَمْثَالَ ‏(‏45‏)‏‏}‏

‏{‏وَسَكَنتُمْ‏}‏ من السكنى بمعنى التبوء والاستيطان وهو بهذا المعنى مما يتعدى بنفسه تقول سكنت الدار واستوطنتها إلا أنه عدي هنا بفي حيث قيل‏:‏ ‏{‏فِى مساكن الذين ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ‏}‏ جرياً على أصل معناه فإنه منقول عن سكن بمعنى قر وثبت وحق ذلك التعدية بفي، وجوز أن يكون المعنى وقررتم في مساكنهم مطمئنين سائرين سيرتهم في الظلم بالكفر والمعاصي غير محدثين أنفسكم بما قلوا بسبب ما اجترحوا من الموبقات، وفي إيقاع الظلم على أنفسهم بعد إطلاقه فيما سلف إيذان بأن غائلة الظلم آيلة إلى صاحبه، والمراد بهم كما قال بعض المحققين إما جميع من تقدم من الأمم المهلكة على تقدير اختصاص الاستمهال والخطاب السابق بالمنذرين، وإما أوائلهم من قوم نوح وهود على تقدير عمومها للكل، وهذا الخطاب وما يتلوه باعتبار حال أواخرهم‏.‏

‏{‏وَتَبَيَّنَ لَكُمْ‏}‏ أي ظهر لكم على أتم وجه بمعاينة الآثار وتواتر الأخبار ‏{‏كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ‏}‏ من الإهلاك والعقوبة بما فعلوا من الظلم والفساد، وفاعل ‏{‏تَّبَيَّنَ‏}‏ مضمر يعود على ما دل عليه الكلام أي فعلنا العجب بهم أو حالهم أو خبرهم أو نحو ذلك، وكيف في محل نصب بفعلنا وجملة الاستفهام ليست معمولة لتبين لأنه لا يعلق، وقيل‏:‏ الجملة فاعل ‏{‏تَّبَيَّنَ‏}‏ بناء على جواز كونه جملة وهو قول ضعيف للكوفيين‏.‏

وذهب أبو حيان إلى ما ذهب إليه الجماعة ثم ذكر أنه لا يجوز أن يكون الفاعل ‏{‏كَيْفَ‏}‏ لأنه لا يعمل فيها ما قبلها إلا فيما شذ من قولهم‏:‏ على كيف تبيع الأحمرين وقولهم‏:‏ انظر إلى كيف تصنع‏.‏ وقرأ السلمي فيما حكاه عنه أبو عمرو الداني ‏{‏ونبين‏}‏ بنون العظمة ورفع الفعل، وحكى ذلك أضاً «صاحب اللوامح» عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه، وذلك على إضمار مبتدأ أي ونحن نبين والجملة حالية، وقال المهدوي عن السلمي أنه قرأ بنون العظمة إلا أنه جزم الفعل عطفاً على ‏{‏تكونوا‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ 44‏]‏ أي أو لم نبين لكم ‏{‏بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ‏}‏ أي في القرآن العظيم على تقدير اختصاص الخطاب بالمنذرين أو على ألسنة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام على تقدير عمومه لجميع الظالمين‏.‏

‏{‏الامثال‏}‏ أي صفات ما فعلوا وما فعل بهم من الأمور التي هي في الغرابة كالأمثال المضروبة لتعتبروا وتقيسوا أعمالكم على أعمالهم وما لكم على مالهم وتنتقلوا من حلول العذاب العاجل إلى العذاب الآجل فتردعوا عما كنتم فيه من الكفر والمعاصي، وجوز أن يراد من الأمثال ما هو جمع مثل بمعنى الشبيه أي بينا لكم أنهم مثلهم في الكفر واستحقاق العذاب‏:‏ وروى هذا عن مجاهد، والجمل الثلاث في موقع الحال من ضمير ‏{‏أَقْسَمْتُمْ‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ 44‏]‏ أي أقسمتم أن ليس لكم زوال والحال أنكم سكنتم في مساكن المهلكين بظلمهم وتبين لكم فعلنا العجيب بهم ونبهناكم على جلية الحال بضرب الأمثال وقوله سبحانه‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏46‏]‏

‏{‏وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ ‏(‏46‏)‏‏}‏

‏{‏وَقَدْ مَكَرُواْ مَكْرَهُمْ‏}‏ حال من الضمير الأول في ‏{‏فَعَلْنَا بِهِمْ‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ 45‏]‏ أو من الثاني أو منهما جميعاً، وقدم عليه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَضَرَبْنَا لَكُمُ الامثال‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ 45‏]‏ لشدة ارتباطه على ما قيل بما قبله أي فعلنا بهم ما فعلنا والحال أنهم قد مكروا في إبطال الحق وتقرير الباطل مكرهم العظيم الذي استفرغوا في عمله المجهود وجاوزوا فيه كل حد معهود بحيث لا يقدر عليه غيرهم، والمراد بيان تناهيهم في استحقاق ما فعل بهم، أو وقد مكروا مكرهم المذكور في ترتيب مبادىء البقاء ومدافعة أسباب الزوال فالمقصود إظهار عجزهم واضمحلال قدرتهم وحقارتها عند قدرة الله سبحانه قاله شيخ الإسلام، وهو ظاهر في أن هذا من تتمة ما يقال لأولئك الذين ظلموا، وهو المروي عن محمد بن كعب القرظي، فقد أخرج عنه ابن جرير أنه قال‏:‏ بلغني أن أهل النار ينادون ‏{‏رَبَّنَا أَخّرْنَا إلى أَجَلٍ قَرِيبٍ‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ 44‏]‏ الخ فيرد عليهم بقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏أَوَ لَمْ تَكُونُواْ أَقْسَمْتُمْ‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ 44‏]‏ إلى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لِتَزُولَ مِنْهُ الجبال‏}‏ وذكره ابن عطية احتمالاً، وقيل غير ذلك مما ستعلمه إن شاء الله تعالى قريباً‏.‏ وظاهر كلام غير واحد أن استفادة المبالغة في ‏{‏مَكَرُواْ مَكْرَهُمْ‏}‏ من الإضافة

وفي «الحواشي الشهابية» أن ‏{‏مَكْرِهِمْ‏}‏ منصوب على أنه مفعول مطلق لأنه لازم فدلالته على المبالغة لقوله تعالى الآتي‏:‏ ‏{‏وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ‏}‏ الخ لا لأن إضافة المصدر تفيد العموم أي أظهروا كل مكر لهم أو لأن إضافته وأصله التنكير لإفادة أنهم معروفون بذلك وللبحث فيه مجال ‏{‏وَعِندَ الله مَكْرُهُمْ‏}‏ أي جزاء مكرهم على أن الكلام على حذف مضاف، وجوز أن لا يكون هناك مضاف محذوف، والمعنى مكتوب عنده تعالى مكرهم ومعلوم له سبحانه وذلك كناية عن مجازاته تعالى لهم عليه، وأياً ما كان فإضافة ‏{‏مَكَرَ‏}‏ إلى الفاعل وهو الظاهر المتبادر، وقيل‏:‏ إنه مضاف إلى مفعوله على معنى عنده تعالى مكرهم الذي يمكرهم به وتعقبه أبو حيان بأن المحفوظ أن مكر لازم ولم يسمع متعدياً، وأجيب بأنه يجوز أن يكون المكر متجوزاً به أو مضمناً معنى الكيد أو الجزاء، والكلام في نسبة المكر إليه تعالى وأنه إما باعتبار المشاكلة أو الاستعارة مشهور، وذكر بعض المحققين أن المراد بهذا المكر ما أفاده قوله تعالى‏:‏ ‏{‏كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ 45‏]‏ لا أنه وعيد مستأنف‏.‏ والجملة حال من الضمير في ‏{‏مَكَرُواْ‏}‏ أي مكروا مكرهم وعند الله تعالى جزاؤه أو هو ما أعظم منه‏.‏ والمقصود ببيان فساد رأيهم حيث باشروا فعلاً مع تحقق ما يوجب تركه ‏{‏وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الجبال‏}‏ أي وإن كان مكرهم فـ يغاية الشدة والمتانة، وعبر عن ذلك بكونه معدي لإزالة الجبال عن مقارها لكونه مثلاً فـ ذلك‏.‏

‏{‏وَأَنْ‏}‏ شرطية وصلية عند جمع، والمراد أنه سبحانه مجازيهم على مكرهم ومبطله إن لم يكن في هذه الشدة وإن كان فيها، ولا بد على هذا الوجه من ملاحظة الإبطال وإلا فالجزاء المجرد عن ذلك لا يكاد يتأتى معه النكتة التي يدور عليها ما في إن الوصلية من التأكيد المعنوي‏.‏ وجوز أن يكون المعنى أنه تعالى يقابلهم بمكرهم، ولا يمنع من ذلك كون مكرهم في غاية الشدة فهو سبحانه وتعالى أشد مكراً، ولا حاجة حينئذ إلى ملاحظة الإبطال فتدبر‏.‏ وعن الحسن وجماعة أن ‏{‏ءانٍ‏}‏ نافية واللام لام الجحود ‏{‏وَكَانَ‏}‏ تامة، والمراد بالجبال آيات الله تعالى وشرائعه ومعجزاته الظاهرة على أيدي الرسل السالفة عليهم السلام التي هي كالجبال في الرسوخ والثبات والقصد إلى تحقير مكرهم وأنه ما كان لتزول منه الآيات والنبوات‏.‏ وجوز أن تكون ‏{‏كَانَ‏}‏ ناقصة وخبرها إما محذوف أو الفعل الذي دخلت عليه اللام على الخلاف الذي بين البصريين والكوفيين‏.‏ وأيد هذا الوجه بما روى عن ابن مسعود من أنه قرأ ‏{‏وَمَا كَانَ‏}‏ بما النافية، وتعقب بأن فيه معارضة للقراءة الدالة على عظم مكرهم كقراءة الجمهور، وأجيب بأن الجبال في تلك القراءة يشار بها إلى ما راموا إبطاله من الحق كما أشرنا إليه وفي هذه على حقيقتها فلا تعارض إذ لم يتواردا على محل واحد نفياً وإثباتاً‏.‏ ورد بأنه إذا جعل الحق شبيهاً بالجبال في الثبات كان مثلها بل أدون منها في هذا المعنى، فإذا نفى إزالته إياه انتفى إزالته جبال الدنيا وحينئذ يجيء الإشكال‏.‏

وتعقبه الشهاب بأن هذا غير وارد لأن المشبه لا يلزم أن يكون أدون من المشبه به في وجه الشبه بل قد يكون بخلافه ولو سلم فقد يقدر على إزالة الأقوى دون الآخر لمانع كالشجاع يقدر على قتل أسد ولا يقدر على قتل رجل مشبه به لامتناعه بعدة أو حصن ولا حصن أحصن وأحمى من تأييد الله تعالى شأنه للحق بحيث تزول الجبال يوم تنسف نسفاً ولا يزول انتهى، وإلى تفسير ‏{‏الجبال‏}‏ على هذه القراءة بما ذكرنا ذهب شيخ الإسلام ثم قال‏:‏ وأما كونها عبارة عن أمر النبي صلى الله عليه وسلم وأمر القرآن العظيم كما قيل فلا مجال له إذ الماكرون هم المهلكون لا الساكنون في مساكنهم من المخاطبين‏.‏ وإن خص الخطاب بالمنذرين وسيظهر لك قريباً إن شاء الله تعالى جواز ذلك على بعض الأقوال في الآية، والجملة حال من الضمي في ‏{‏مَكَرُواْ‏}‏ لا من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَعِندَ الله مَكْرُهُمْ‏}‏ وجوز أبو البقاء‏.‏ وغيره أن تكون مخففة من الثقيلة والمعنى إن كان مكرهم ليزول منه ماهو كالجبال في الثبات من الآيات والشرائع والمعجزات، والجملة أيضاً حال من الضمير المذكور أي مكروا مكرهم المعهود وأن الشأن كان مكرهم لإزالة الحق من الآيات والشرائع على معنى أنه لم يكن يصح أن يكون منهم مكر كذلك وكان شأن الحق مانعاً من مباشرة المكر لإزالته‏.‏

وقرأ ابن عباس‏.‏ ومجاهد‏.‏ وابن وثاب‏.‏ والكسائي ‏{‏لِتَزُولَ‏}‏ بفتح اللام الأولى ورفع الفعل فإن على ذلك عند البصريين مخففة واللام هي الفارقة، وعند الكوفيين نافية واللام بمعنى إلا، والقصد إلى تعظيم مكرهم فالجملة حال من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَعِندَ الله مَكْرُهُمْ‏}‏ أي عنده تعالى جزاء مكرهم أو المكر بهم والحال أن مكرهم بحيث تزول منه الجبال أي في غاية الشدة‏.‏ وقرىء ‏{‏لِتَزُولَ‏}‏ بالفتح والنصب، وخرج ذلك على لغة جاءت في فتاح لام كي‏.‏ وقرأ عمر‏.‏ وعلى‏.‏ وأبي‏.‏ وعبد الله‏.‏ وأبو سلمة بن عبد الرحمن‏.‏ وأبو إسحق السبيعي‏.‏ وزيد بن علي رضي الله تعالى عنهم ورحمهم ‏{‏وَإِن كَادُواْ‏}‏ بدال مكان النون و‏{‏لِتَزُولَ‏}‏ بالفتح والرفع، وهي رواية عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، ونقل أبو حاتم عن أبي رضي الله تعالى عنه أنه قرأ ‏{‏وَلَوْلاَ كَلِمَةُ الله مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الجبال‏}‏ وحمل ذلك بعضهم على التفسير لمخالفته لسواد المصحف مخالفة ظاهرة؛ هذا ومن الناس من قال‏:‏ إن الضمير في ‏{‏مَكَرُواْ‏}‏ للمنذرين، والمراد بمكرهم ما أفاده قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الذين كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 30‏]‏ وغيره من أنواع مكرهم برسول الله صلى الله عليه وسلم، قال شيخ الإسلام‏:‏ ولعل الوجه حينئذ أن يكون قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَقَدْ مَكَرُواْ‏}‏ الخ حالاً من القول المقدر أي فيقال لهم ما يقال والحال أنهم مع ما فعلوا من الأقسام المذكورة مع ما ينافيه قد مكروا مكرهم العظيم أي لم يكن الصادر عنهم مجرد الأقسام الذي وبخوا به بل اجترؤا على مثل هذه العظيمة‏.‏ وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَعِندَ الله مَكْرُهُمْ‏}‏ حال من ضمير ‏{‏مَكَرُواْ‏}‏ حسبما ذكر من قبل‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ‏}‏ إلى آخره مسوق لبيان عدم تفاوت الحال في تحقيق الجزاء بين كون مكرهم قوياً أو ضعيفاً كما مرت الإشارة إليه، وعلى تقدير كون ‏{‏ءانٍ‏}‏ نافية فهو حال من ضمير ‏{‏مَكَرُواْ‏}‏ والجبال عبارة عن أمر النبي صلى الله عليه وسلم أي وقد مكروا واو الحال أن مكرهم ما كان لتزول منه هاتيك الشرائع والآيات التي هي كالجبال في القوة، وعلى تقدير كونها مخففة من الثقيلة واللام مكسورة يكون حالاً منه أيضاً، على معنى أن ذلك المكر العظيم منهم كان لهذا الغرض، والقصد إلى أنه لم يصح أن يكون منهم مكر كذلك لما أن شأن الشرائع أعظم من أن يمكر بها‏.‏

وعلى تقدير فتح اللام فهو حال من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَعِندَ الله مَكْرُهُمْ‏}‏ كما ذكر سابقاً اه‏.‏ ويجوز أن يراد بمكرهم شركهم كما أخبرجه ابن جرير‏.‏ وغيره عن ابن عباس، والجبال على حقيقتها وأمر الجملة على ما قال‏.‏

وحاصل المعنى لم يكن الصادر عنهم مجرد الأقسام مع ما ينافيه بل اجترؤا على الشرك وقالوا‏:‏ ‏{‏اتخذ الرحمن وَلَداً لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدّاً تَكَادُ السموات يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الارض وَتَخِرُّ الجبال هَدّاً‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 88-90‏]‏ وقد روى عن الضحاك أنه صرح بأن ما نحن فيه كهذه الآية، ثم إن القول بجعل الضمير للمنذرين قول بعدهم دخول هذا الكلام في حيز ما يقال، وهو الظاهر كما قيل، وكذا حمل الجبال على معناها الحقيقي‏.‏ وفي «البحر» الذي يظهر أن زوال الجبال مجاز ضرب مثلاً لمكر قريش وعظمه والجبال لا تزول، وفيه من المبالغة في ذم مكرهم ما لا يخفى‏.‏

وأما ما روى أن جبلاً زال بحلف امرأة اتهمها زوجها وكان ذلك الجبل من حلف عليه كاذباً مات فحملها للحلف فمكرت بأن رمت نفسها من الدابة وكانت وعدت من اتهمت به أن يكون في المكان الذي وقعت فيه من الدابة فاركبها زوجها وذلك الرجل وحلفت على الجبل أنها ما مسها غيرهما فنزلت سالمة وأصبح الجبل قد اندك وكانت المرأة من عدنان‏.‏

وما روى من قصة نمروذ بن كوش بن كنعان أو بخت نصر واتخاذ الأنسر وصعودهما إلى قرب السماء في قصة طويلة مشهورة، وما فعل بعضهم من حمل الجبال على دين الإسلام والقرآن وحمل المكر على اختلافهم فيه من قولهم‏:‏ هذا سحر، هذا شعر، هذا إفك فأقول ينبو عنها ظاهر اللفظ، وبعيد جداً قصة الأنسر اه‏.‏

واستبعد ذلك أيضاً كما نقل الإمام القاضي وقال‏:‏ إن الخطر في ذلك عظيم ولا يكاد العاقل يقدم عليه، وما جاء خبر صحيح معتمد ولا حاجة في تأويل الآية إليه، ونعم ما قال في خبر النسور فإنه وإن جاء عن علي كرم الله تعالى وجهه‏.‏ وعن مجاهد‏.‏ وابن جبير‏.‏ وأبي عبيدة‏.‏ والسدي‏.‏ وغيرهم إلا أن في الأسانيد ما لا يخفى على من نقر‏.‏

وقد شاع ذلك من أخبار القصاص وخبرهم واقع عن درجة القبول ولو طاروا إلى النسر الطائر، ومثل ذلك فيما أرى خبر المتهمة فافهم والله تعالى أعلم‏.‏